roubaii.mohammed

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
roubaii.mohammed

ان المنتدى سيكون مميزن وميكون رهنا اشارت الجميعة. roubaii.mohammed


    عطر الحب

    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 128
    تاريخ التسجيل : 09/08/2009
    العمر : 33
    الموقع : roub.yoo7.com

    عطر الحب Empty عطر الحب

    مُساهمة  Admin الأربعاء أغسطس 26, 2009 7:42 am

    قوبل القرار الذي اتَّخذته زينب بالاستهجان والاستغراب معاً، لدرجةٍ شعرت أنها مطوّقة بنظراتِ أولادها وزوجها السَّاخطة، لكنَّها في أعماقها شعرت بشيءٍ من السّخرية من استيائهم، فلن تتراجع عن قرارها حتى لو اكتشفوا كِذبَتها.‏

    اتخذت قراراً بأن تأخذ إجازة من المؤسسةِ الزَّوجيةِ لعدةِ أيَّامٍ، لم تكن تستطع أن تقول لهم بصراحةٍ: "اسمعوا، أنا على شفير الانهيار من الإرهاق، وأشعرُ كما لو أنَّني حمار الطَّاحون، فمنذ خمسة عشر عاماً أعمل على خدمتكم بشكلٍ متواصلٍ..". ياه، أريد أن أرتاح، أن أفرَّ منكم بضعة أيامٍ كي أرمِّم نفسي وأشحذ بطاريتي.". ما كانوا ليقتنعوا بكلامها، فاضطّرت لاختلاق كذبةٍ، بأن زوج أعزِّ صديقاتِ طفولتها قد توفيَ وعليها أن تسافرَ إليها في بيروت، تحديداً في قريةٍ قريبةٍ من بيروت.‏

    حاكت كذبتها دون أن تهتمَّ بأمر افتضاحها، تحدّت زوجها الذي تعتقد أن متْعَتهُ الوحيدة في الحياة هي إدانة الناس وتقصَّى عثراتهم، كانت تتخيل ببرودٍٍ نظرَتَهُ الشامتةٍ وهو يقولُ لها: "يا سلام، المُربّية الفاضلة تكذب!"..‏

    بدون أسف باعت السَّوار الذهبيّ الوحيد الذي تملكه، والذي قدمَّه لها زوجُها يوم عقدِ القران، سوارٌ مؤلَّفٌ من حلقاتٍ ثخينةٍ متشابكةٍ مع بعضها. فكَّرت وهي تقبض ثمن السَّوار، دون أن تشعر بذرّةِ ندم، أنّ حلقات ذلك السَّوار المتداخلةِ مع بعضها تشبه سنواتِ حياتِها التي تتلاحق في خدمة أحبّائها. شعرت براحةٍ وهي تتخلص من ذلك السِّوار كأنَّها تقطع آخر رباطٍ لها مع المؤسسةِ الزوجيةِ.‏

    لم تكن تعرف بيروت إلا من خلال التلفاز، وبمساعدةِ صديقتها الوحيدة في العمل، اتفقت مع سائق تاكسي ليمرَّ بها فجراً لتسافر إلى مدينةٍ أهم مافيها أنها لا تعرف فيها أحداً ...دلَّتها صديقتها على عنوان فندق...‏

    لم تصدِّق أنَّ كِذْبَتها نجحت إلا حين جمعت بعض ثيابها في حقيبةٍ وأولادها متحلِّقين حولها ينظرون إليها بافتقادٍ وعتابٍ. ابنها الصغير ماكان يستطيع أن يغفو إن لم يلامس جسدُهُ جسدَها، طوَّق عنقها، والتصق جسدُهُ النحيلُ بجسدِها، قائلاً:‏

    ـ "ماما، أوِّل مرَّةٍ تتركينا...".‏

    قبَّلت خدَّيه بنهمٍ كعادتِها، قُبُلاتٍ يسمّيها أولادها "كاسات هوا"، قالت له:‏

    ـ "لن أغيب سوى أيّام قليلة وسأشتري لك هدايا كثيرة"...‏

    نجحت خطَّتُها بيسرٍ لم تتوقعه، ورغمَ أنَّ كل شيء مرَّ بسلام، فإنها شعرت بذعرٍ حقيقيٍّ حين انطلقت بها السيَّارة مبتعدةً، شعرت أنَّ قرارها بالسَّفَرِ كان متهوِّراً وتمنَّت بحماسٍ أن تنال عقابها لتكفِّر عن ذنبها بترك أولادها، وكي لا تأسرها مشاعرُ الإثمِ وتأنيبِ الضميرِ تجاهَ أولادِها ذكَّرت نفسَها بأنَّها طبخت لها سلفاً عن ثلاثةِ أيامٍ، وغسلت ثيابهم وكوتها، لمَّعت الزجاج ومسحت الأرض، فلن يرهقهم أيُّ عملٍ...‏

    كان الطريق إلى بيروت موازياً للبحر، ظلَّ نظرها معلَّقاً بالبحر طوال ساعات السفر، وحين عبرت الحدود غاص قلبُها في أسىً عميق وهي تعي أنَّها لم تسافر أبداً طوال حياتها. بل زاد في أساها إحساسها أنَّه كان يمكن لعمرها أن يمضي على الوتيرةِ ذاتِها لو لم تخترع كذبة لتسافر خارج سجن الحب، عند هذه العبارة همدت أفكارُها، أجل، ما الأسرةُ، سوى سجن الحب؟!.. مطلوبٌ منها أن تعطي وتعطي وتعطي، محرّمٌ عليها أن تتعب، يجب أن تكون كالإسفنجة التي تمتصُّ حتى لو اختنقت من السائل..‏

    كانت متكوِّمة في مقعدِها، تسند جبينها على زجاج النافذة؛ تحبس نَفَسَها في الصمتِ كما لو أنها في درعٍ، لم ترغب في تبادل الحديث مع الرّكابِ مكتفية بحوارها الصامت الحميم مع البحر. لم تحدد طبيعة مشاعرها، وهي تتعرَّف للمرّة الأولى على طبيعة لبنان الساحرة، أحسَّت أن مشاعرها عميقةٌٍ مختنقةٌ داخلها ومتشابكة لدرجةٍ يصعب عليها تحديد ماهيتها، لم يغادر أطفالها ذهنها لحظة واحدة، كانت معهم في كلِّ تحرُّكاتهم، أثناء فطورهم، واغتسالهم وذهابهم إلى المدرسة، شعرت بغرابةٍ ودهشةٍ حقيقيَّتين وهي تتنبهُ لأوَّلُ مرّةٍ في حياتِها كيف أنها حاضرةٌ في كلِّ شيءٍ في حياتهم..‏

    أصابتها تلك الحقيقة التي داهمتها متكثِّفة عبر خمسة عشر عاماً بدوار حقيقيٍّ، أغمضت عينيها مستسلمةً لدوار العاطفةِ العاصفةِ التي تربطها بأسرتها، وَعَتْ بكلِّ كيانها المتهالك من التعبِ أنها صرحُ هذه الأسرةِ، حجرُ الأساس فيها، وبأنَّهم لا يكونون إلاَّ بها.‏

    أنهكتها انفعالاتِها طوال الرحلةِ، فوصلت إلى الفندق منهكة، بقلبٍ ثقيلٍ ومشاعرَ متضاربة تُثقلُ كاهلها وتجبرها على إحناءِ كتفيها قليلاً. الغرفةُ مريحة، نظيفة، ومن الشرفةِ يُطلُّ بحرُ بيروت ليزيدَ من إغوائها بالحريَّةِ، أسدلت الستائر الداكنة المضاعفة، واستلقت على سرير هروبها، مُسلِّمة نفسها للعتمةِ الرطبةِ اللطيفةِ تجرِّدُها شيئاً فشيئاً من طبقاتٍ متراكمةٍ من القلق والتَّوتُر، وصور أولادها التي تخزها دوماً بمشاعر تأنيب الضميرِ. عاودها إحساسها بذاتها، اكتشفت فكرةً أدهشتها، وتمنَّتْ لو تملك الهمة لتقاوم استرخائها وتسجلها: "الحب أفقدني إحساسي بذاتي".. هذا ما أكَّدته لنفسها وهي تعي كيف أنَّ الأمَّ مجرّدُ صدىً لأولادِها، تفرح لفرحهم وتحزنُ لحزنِهم، أمَّا هي فَتَفْرغُ، تصيرُ قربة جوفاء... أجل خمسة عشر عاماً من الحياةِ في جنَّةِ الحبِّ الأسريِّ فرَّغتها تماماً، إنها تُشبهُ بئراً جفَّ. غرقت في النوم بعكس توقعاتِها بأنَّها ستأرق ولن تتمكن من النوم في سريرٍ غير سريرِها، لكن حين أيقظها شعورٌ بالجوع أدركت أنَّها نامت بعمقٍ كما لو أنَّها ضحيّة سباتٍ، نظرت في ساعتِهَا، الرابعة والنصف بعد الظهر، اتّصلت بعاملة الاستعلامات لتسألها إن كان المطعم لا يزالُ يقدِّمُ وجبة الغداء.‏

    أجابتها الموظفة بلطفٍ دافئ: "أجل"..‏

    بدَّلت ملابسَها. كان المطعمُ في الطابق التاسع، اختارت زاويةً مطلَّةً على البحر، وتأمّلت بيروت المسترخيةِ على الشاطئ والمتسربلةِ بضبابٍ خفيفٍ، تفجَّرت فجأةً حيويّةً هائلةً في روحِها، حيوية مختزنة منذ سنواتٍ وسنواتٍ. طلبت بيرة وأكلت بشهيةٍ، مازحت نفسها بدعابةٍ: كم مرَّةً يا زينب تناولت طعامك دون أن تقومي عن كرسيِّكِ مراراً لتلبِّي طلباتِ زوجكِ وأولادكِ؟ أسعدها أن تُخدم، تذكَّرت أنَّها وعدتُهم أن تتصل بهم لتطمئنهم عن وصولها، كادت تنسى كذبتَّها، ذكرت نفسها أنَّها في قريةٍ قرب بيروت لتعزيةِ صديقةٍ بوفاةِ زوجها.‏

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين مايو 20, 2024 3:53 am