كان الصباح يقترب، وكانت تحلم بالسفر إلى توليدو كما وعدت هنداً في آخر هاتف. كانت في قرارة نفسها تشتاق لذلك البلد، الذي أحبته منذ اليوم الأول، ليس لأنه الأجمل. تذكّرت حلو الأيام التي قضتها فيه، كما تذكّرت مرّها. تذكّرت قسمها بمقاطعة الزواج، حين رزحت هند تحت وطأة الطلاق. كانت صادقة يومذاك وهي تصل إلى حقائق في حياة الإنسان، ومواقفه العدائية أمام ما يمسّ مصالحه، وكانت تستغرب تصرفات زوج هند، التي اختلفت بين ليلة وضحاها، وتجاهله لكل ما كان جميلاً، ويبحث عن الثغرات التي كانت في يوم عابرة، ليجعل منها قضية تستحق حلاً سريعاً ينتهي بالطلاق .
رفضت يومذاك الزواج من جورجي. لم تطالب بشرط ما. كان الرجال في عينيها كتلة من المساوئ. بفوقيتهم. بقوة أجسادهم. بنبرات أصواتهم. بأنانياتهم. لا علاقة لجنسيته أو لتربيته. لا فرق إن كان أمريكي الجنسية أو غير أمريكي، فزوج هند عربي الأبوين، وفي لحظة أنانية عاد رجلاً كأكثر الرجال، قوياً. بيده الفصل والقرار .
تذكّرت جمانا أحداثاً كثيرة، غير أنها ولسبب ما، توصّلت إلى اختلاف جورجي عن الكثيرين، فسترتبط به حتماً، وبارتباطهما سيشكّلان مثال الزوجين الطيبين. كانت سعيدة بتفكيرها، وكانت تنتظر الجديد في كل ثانية تمر .
اجتمعت الصديقات الأربع. تينا وميكي وساندي وجينا، وانضمت إليهن شيري. انتقين أحد البارات النائية، وجلسن يحتسين الخمرة. بدون محبطات، وقد انتشرن على مقاعدهن. كان لكل منهن الهم الذي يشغلها. بدت ساندي متأثرة فهي ستفقد زاهي عن قريب. انتهت المهمة التي شغلتها عامين. سيحدث الطلاق. ويجف النبع الذي تدفّق بغزارة. سحبت نفساً عميقاً من لفافة الميروانا، وهي تنقل عينيها على رواد البار. أوعزت تينا بالهدوء، فالأمر يحتاج إلى رويّة، طالما ابتدأ بحث ساندي عن صيد جديد. ضحكت الصديقات. لم لا؟ مهنة جميلة. تدخّلت ميكي، فصفقتها هي متجدّدة، ولذلك فشباكها أمتن نسجاً، غير أن تينا علّقت على أن الضعف ليس في شبكة ساندي، إنما في متانة الصيد. كانت شيري تستمع، وهي التي لم ترتبط بزواج، وكانت علاقاتها تنتهي في مهدها. شعرت لأول مرة باشتياق لعلاقة تنتهي بالزواج. ستحب زوجها، وتتقاسم معه النفقات والمصاريف، وتلد ابناً، أو بنتاً. توقفت فجأة عن التفكير، فقد استفاقت أعماقها رافضة الفكرة، ونعتت الزواج بمختلف النعوت.
فاجأتهم تينا بكشف أسرارها التي لم تعد خافية كما تعتقد، وأسهبت بتفاصيل علاقتها مع الرجل الثري، والمتزوج للمرة الرابعة. إنه يغدق عليها بلا حساب. إنه مولع بها. كادت أن تفقد عملها بسببه. هي لا تشعر بالحب نحوه، إنما بالتعلّق به، فهو يرضي غرورها كأنثى. إنه مختلف عن بقية الرجال بكرمه وتقديره للأنثى. إنه طفل كبير، وغرقت فجأة بالضحك وهي تصف عضوه الذكري الصغير، المشوه خلقياً، فشاركنها الضحك.
كانت جينا أكثر الجميع إحباطاً، فهي التي خسرت الزوج والأبناء دفعة واحدة، وتعلّق بأنها تحب أبناءها، لكنها تكره كاظماً الذي استغلّها فترة من الزمن، ورماها للآخرين، هي تحب ابنيها، وتحب عاداتها الجديدة التي كانت سبباً في حرمانها منهما. علّقت تينا على إحدى عاداتها الماضية. ضحكت الأخريات وتأسفت هي، فما زالت تحنّ إلى تلك الأيام، وربما تحسد زوجته نور، التي تسرّبت أخبارها عن طريق ابنيها، حيث يمارس كاظم ميوله، فقد أشبعها ضرباً إثر مشادة قامت بينها وبين أمه.
تلقّفت الصديقات أخبار نور بلهفة، ورحن في سؤال وجواب، فأكثرت من الأحاديث، واختلقت القصص، وكأنها تتشفّى بالفتيات العربيات، وتحلم أن ينتهين إلى العهر، فهن أكثر فتيات العالم قاطبة قدرة على تحمّل الظلم، وهن المرغوبات بين الرجال، لبناء أسرة لاتتفكك، وتستغرب مدى استعدادهن للمحافظة على أنفسهن من ممارسة الجنس. تضحك بسخرية. هنالك ما يسمّونه البكارة. تهدى للزوج عربون وفاء وإخلاص. يحلم الشاب العربي بفض بكارة عروسه. لا يهمّه ماذا فعلت؟ هل مارست الجنس قبلاً؟ هل خضعت لعلاقة ما؟ قد تكون مريضة أو شاذّة، أو؟ تدّخلت تينا التي على معرفة أوسع في هذه التقاليد، وعلّقت على النسبة الكبيرة التي تتخللها حتماً هناك ما هو مخالف، وأشارت إلى أن ممارسة الجنس نوع من تعوّد. يستيقظ في فترة معينة، أو مع الحب، في كل الأحوال قد يغفو ثانية إذا لم يحدث الوصال، وانتقلت للحديث عن نور.
مرّ على زواج كاظم أشهر ثلاثة، لم تخرج خلاله من البيت. يتلو عليها كل صباح الواجبات، التي أهمها مرافقة الأم في كل خطوة، لتحذو حذوها، وحين يصفق الباب وراءه، تنهال نور بالشتائم، والتنديد بيوم قريب تخرج فيه إلى النور.
حافظت الأم على تفاؤلها، مع أن التشاؤم كان يزورها بين الفينة والأخرى، فتأمل بعودة نور إلى رشدها، وترضخ لحياتها التي سيحوّلها كاظم إلى نعيم، مستشهدة بزيجات تخلّلتها المشاكل والمشاحنات، إلى أن اعتاد كل من الطرفين على طباع الآخر.
لم تكن نور تعرف أحداً في توليدو، أما كاظم الذي أقسم ألاّ يحقق وعداً من وعوده لها، إن لم تنصع لأوامره وتحقق رغباته، فقد ابتعد عن أصدقائه العرب، وكل ما يربطه بمن له علاقة بهم، وبقي رقم هاتفه سرّاً من أسراره .
لم تبح جينا لصديقاتها عن تلك العلاقة التي تربط ابنيها بنور. احتفظت بما كانا ينقلانه لها، فهي ترعاهما. تحضنهما بحب. تبكي لأنهما ظلما معها، وفي مرة بكيا. إنهما يتمنيان لو كانت نور أمهما. غضبت جينا يومذاك، وصمتت على مضض. لكنها وفي قرارة نفسها. شعرت بالاطمئنان لأنهما يعيشان في كنف بيت له ملامح الأسرة والعائلة .
كان قلبها يخفق، وكأنها على موعد مع حبيب، كأنها شابة أتعبها الهجر والغربة. أبطأت خطواتها. كل الأشياء تتحوّل إلى أصابع تشير إليها. كان الشارع خالياً من الناس، عدا السيارات المتراصّة، والتي تعبر جيئة وذهابا. فكرت بما هي به، فهل يعقل أن تذهب لموعد رغب به هو؟ وكيف انساقت ببساطة. ما الذي يفسّره موعد كهذا في بلد لا تتم المواعيد خفية؟ المواعيد لها طابع الحرية والعلاقات الشخصية. لماذا أراد للقائهما أن يكون خارج عملها؟ لو اختلف المكان، هل كانت لتلبّي الدعوة؟ منذ زمن لم تذهب إلى مقر الجالية العربية. كانت في كل مناسبة تذهب إلى هناك. تلتقي بالأصدقاء. تصنع لهم أصناف الطعام العربي. يهرعون . تجمعهم أكثر من قضية. الغربة والحنين. يطرحون هموم الوطن ومشاكله، لماذا الآن تتدفّق شوقاً. رغبة تملؤها بالإسراع. كل شيء جديد. جديد أن تفرح. أن تغتبط، وجديد أن تخاف. أن تتوجّس. لكنها جديدة. مملوءة حياة. أصبح كل شيء مختلفاً. إنها تتحرّك من أجل شيء يخصّها. شيء لها هي. ابتسمت. كانت قد اختارت الثوب بصعوبة. ترى! ما الذي يحب؟ الأبيض أم الأسود؟ أم كلاهما ؟
هاهي تقترب من المدخل، وكأنها المرة الأولى. هذا المكان الذي أحبته كثيراً. كأنها لا تعرف هذا المكان. هل تعود؟ لا إنه المكان الذي جمعها بأبناء الوطن أيام الغربة الأولى، فيتساءلون في كل لقاء، لماذا تمر بلادهم بالصعاب؟ في طفولتها وصباها قرأت التاريخ، حقبة وراء حقبة. مئات الأعوام مرّت، لا حرية . لا سلام. دائماً يوجد متسلّطون تحت كل الأسماء والشعارات. لماذا يحدث لبلادها ما يحدث؟ بلادها التي حباها الله بالجمال والتميّز؟ لماذا يحدث لشعبها ما يحدث؟ وهم المتفوّقون في كل المجالات ؟ هم النخبة حيث يوجدون. هم الأكثر قدرة على الاستمرار. على التحمل. على الحياة .
شيء يدفعها للجري واقتحام الأبواب. وجدت نفسها بين مجموعة من الأصدقاء . كان الدكتور ماجد وسامي وحسان وغيرهم، وكان الجميع يرحّبون بها، وكان هو، وبين الترحيب حلّت الطمأنينة. شعرت هند بالراحة والعفوية، وانطلقت على سجيتها كما كانت تفعل في أيام ماضية.
كرّر الدكتور سامي اسم خالد، وتابع، فهو صديق قديم. يعمل في الصحافة. لا يعرف الاستقرار. يتنقّل من بلد لآخر. يحمل همومه المتجدّدة باستمرار.
ضحك خالد مؤكّداً صحّة ما سمع. كانت هند مندهشة، فما سمعت هو آخر ما فكّرت أو تفكّر به. كان قلبها يخفق. إنها المرة الأولى التي تعقد فيها موعداً هاماً، كما حصل معها. لم تعد تفكّر لماذا هي هنا؟ شعرت بأنها مكتفية بتلك الدقائق القليلة وهي بصحبة خالد، الذي انتقاها لسبب ما. دخل الجميع في حوارات كثيرة. كانت منشغلة عنهم. استمعت إلى بعضها. تحدّثوا عن الواقع العربي. أبدى خالد استياءه من أبناء بلده، الذين يسخّرون طاقاتهم لغير الوطن، فقد لاحظ من خلال تجواله الطويل. أن أهم الأعمال في أمريكا، تقع على عاتق الشباب العربي، ولو سخّر طاقته للوطن، أو لو لم يتجاهل قضيته الأولى، لاختلفت أمور كثيرة.
هيئ لهند فجأة. أنها ستستيقظ ذات يوم في الوطن. تراءى للحال وجه أبيها يبتسم، ووجه أمها ينضح بشراً، وخلال ومضة سحبها خالد من شرودها، معلّقاً ببساطة.
رفضت يومذاك الزواج من جورجي. لم تطالب بشرط ما. كان الرجال في عينيها كتلة من المساوئ. بفوقيتهم. بقوة أجسادهم. بنبرات أصواتهم. بأنانياتهم. لا علاقة لجنسيته أو لتربيته. لا فرق إن كان أمريكي الجنسية أو غير أمريكي، فزوج هند عربي الأبوين، وفي لحظة أنانية عاد رجلاً كأكثر الرجال، قوياً. بيده الفصل والقرار .
تذكّرت جمانا أحداثاً كثيرة، غير أنها ولسبب ما، توصّلت إلى اختلاف جورجي عن الكثيرين، فسترتبط به حتماً، وبارتباطهما سيشكّلان مثال الزوجين الطيبين. كانت سعيدة بتفكيرها، وكانت تنتظر الجديد في كل ثانية تمر .
اجتمعت الصديقات الأربع. تينا وميكي وساندي وجينا، وانضمت إليهن شيري. انتقين أحد البارات النائية، وجلسن يحتسين الخمرة. بدون محبطات، وقد انتشرن على مقاعدهن. كان لكل منهن الهم الذي يشغلها. بدت ساندي متأثرة فهي ستفقد زاهي عن قريب. انتهت المهمة التي شغلتها عامين. سيحدث الطلاق. ويجف النبع الذي تدفّق بغزارة. سحبت نفساً عميقاً من لفافة الميروانا، وهي تنقل عينيها على رواد البار. أوعزت تينا بالهدوء، فالأمر يحتاج إلى رويّة، طالما ابتدأ بحث ساندي عن صيد جديد. ضحكت الصديقات. لم لا؟ مهنة جميلة. تدخّلت ميكي، فصفقتها هي متجدّدة، ولذلك فشباكها أمتن نسجاً، غير أن تينا علّقت على أن الضعف ليس في شبكة ساندي، إنما في متانة الصيد. كانت شيري تستمع، وهي التي لم ترتبط بزواج، وكانت علاقاتها تنتهي في مهدها. شعرت لأول مرة باشتياق لعلاقة تنتهي بالزواج. ستحب زوجها، وتتقاسم معه النفقات والمصاريف، وتلد ابناً، أو بنتاً. توقفت فجأة عن التفكير، فقد استفاقت أعماقها رافضة الفكرة، ونعتت الزواج بمختلف النعوت.
فاجأتهم تينا بكشف أسرارها التي لم تعد خافية كما تعتقد، وأسهبت بتفاصيل علاقتها مع الرجل الثري، والمتزوج للمرة الرابعة. إنه يغدق عليها بلا حساب. إنه مولع بها. كادت أن تفقد عملها بسببه. هي لا تشعر بالحب نحوه، إنما بالتعلّق به، فهو يرضي غرورها كأنثى. إنه مختلف عن بقية الرجال بكرمه وتقديره للأنثى. إنه طفل كبير، وغرقت فجأة بالضحك وهي تصف عضوه الذكري الصغير، المشوه خلقياً، فشاركنها الضحك.
كانت جينا أكثر الجميع إحباطاً، فهي التي خسرت الزوج والأبناء دفعة واحدة، وتعلّق بأنها تحب أبناءها، لكنها تكره كاظماً الذي استغلّها فترة من الزمن، ورماها للآخرين، هي تحب ابنيها، وتحب عاداتها الجديدة التي كانت سبباً في حرمانها منهما. علّقت تينا على إحدى عاداتها الماضية. ضحكت الأخريات وتأسفت هي، فما زالت تحنّ إلى تلك الأيام، وربما تحسد زوجته نور، التي تسرّبت أخبارها عن طريق ابنيها، حيث يمارس كاظم ميوله، فقد أشبعها ضرباً إثر مشادة قامت بينها وبين أمه.
تلقّفت الصديقات أخبار نور بلهفة، ورحن في سؤال وجواب، فأكثرت من الأحاديث، واختلقت القصص، وكأنها تتشفّى بالفتيات العربيات، وتحلم أن ينتهين إلى العهر، فهن أكثر فتيات العالم قاطبة قدرة على تحمّل الظلم، وهن المرغوبات بين الرجال، لبناء أسرة لاتتفكك، وتستغرب مدى استعدادهن للمحافظة على أنفسهن من ممارسة الجنس. تضحك بسخرية. هنالك ما يسمّونه البكارة. تهدى للزوج عربون وفاء وإخلاص. يحلم الشاب العربي بفض بكارة عروسه. لا يهمّه ماذا فعلت؟ هل مارست الجنس قبلاً؟ هل خضعت لعلاقة ما؟ قد تكون مريضة أو شاذّة، أو؟ تدّخلت تينا التي على معرفة أوسع في هذه التقاليد، وعلّقت على النسبة الكبيرة التي تتخللها حتماً هناك ما هو مخالف، وأشارت إلى أن ممارسة الجنس نوع من تعوّد. يستيقظ في فترة معينة، أو مع الحب، في كل الأحوال قد يغفو ثانية إذا لم يحدث الوصال، وانتقلت للحديث عن نور.
مرّ على زواج كاظم أشهر ثلاثة، لم تخرج خلاله من البيت. يتلو عليها كل صباح الواجبات، التي أهمها مرافقة الأم في كل خطوة، لتحذو حذوها، وحين يصفق الباب وراءه، تنهال نور بالشتائم، والتنديد بيوم قريب تخرج فيه إلى النور.
حافظت الأم على تفاؤلها، مع أن التشاؤم كان يزورها بين الفينة والأخرى، فتأمل بعودة نور إلى رشدها، وترضخ لحياتها التي سيحوّلها كاظم إلى نعيم، مستشهدة بزيجات تخلّلتها المشاكل والمشاحنات، إلى أن اعتاد كل من الطرفين على طباع الآخر.
لم تكن نور تعرف أحداً في توليدو، أما كاظم الذي أقسم ألاّ يحقق وعداً من وعوده لها، إن لم تنصع لأوامره وتحقق رغباته، فقد ابتعد عن أصدقائه العرب، وكل ما يربطه بمن له علاقة بهم، وبقي رقم هاتفه سرّاً من أسراره .
لم تبح جينا لصديقاتها عن تلك العلاقة التي تربط ابنيها بنور. احتفظت بما كانا ينقلانه لها، فهي ترعاهما. تحضنهما بحب. تبكي لأنهما ظلما معها، وفي مرة بكيا. إنهما يتمنيان لو كانت نور أمهما. غضبت جينا يومذاك، وصمتت على مضض. لكنها وفي قرارة نفسها. شعرت بالاطمئنان لأنهما يعيشان في كنف بيت له ملامح الأسرة والعائلة .
كان قلبها يخفق، وكأنها على موعد مع حبيب، كأنها شابة أتعبها الهجر والغربة. أبطأت خطواتها. كل الأشياء تتحوّل إلى أصابع تشير إليها. كان الشارع خالياً من الناس، عدا السيارات المتراصّة، والتي تعبر جيئة وذهابا. فكرت بما هي به، فهل يعقل أن تذهب لموعد رغب به هو؟ وكيف انساقت ببساطة. ما الذي يفسّره موعد كهذا في بلد لا تتم المواعيد خفية؟ المواعيد لها طابع الحرية والعلاقات الشخصية. لماذا أراد للقائهما أن يكون خارج عملها؟ لو اختلف المكان، هل كانت لتلبّي الدعوة؟ منذ زمن لم تذهب إلى مقر الجالية العربية. كانت في كل مناسبة تذهب إلى هناك. تلتقي بالأصدقاء. تصنع لهم أصناف الطعام العربي. يهرعون . تجمعهم أكثر من قضية. الغربة والحنين. يطرحون هموم الوطن ومشاكله، لماذا الآن تتدفّق شوقاً. رغبة تملؤها بالإسراع. كل شيء جديد. جديد أن تفرح. أن تغتبط، وجديد أن تخاف. أن تتوجّس. لكنها جديدة. مملوءة حياة. أصبح كل شيء مختلفاً. إنها تتحرّك من أجل شيء يخصّها. شيء لها هي. ابتسمت. كانت قد اختارت الثوب بصعوبة. ترى! ما الذي يحب؟ الأبيض أم الأسود؟ أم كلاهما ؟
هاهي تقترب من المدخل، وكأنها المرة الأولى. هذا المكان الذي أحبته كثيراً. كأنها لا تعرف هذا المكان. هل تعود؟ لا إنه المكان الذي جمعها بأبناء الوطن أيام الغربة الأولى، فيتساءلون في كل لقاء، لماذا تمر بلادهم بالصعاب؟ في طفولتها وصباها قرأت التاريخ، حقبة وراء حقبة. مئات الأعوام مرّت، لا حرية . لا سلام. دائماً يوجد متسلّطون تحت كل الأسماء والشعارات. لماذا يحدث لبلادها ما يحدث؟ بلادها التي حباها الله بالجمال والتميّز؟ لماذا يحدث لشعبها ما يحدث؟ وهم المتفوّقون في كل المجالات ؟ هم النخبة حيث يوجدون. هم الأكثر قدرة على الاستمرار. على التحمل. على الحياة .
شيء يدفعها للجري واقتحام الأبواب. وجدت نفسها بين مجموعة من الأصدقاء . كان الدكتور ماجد وسامي وحسان وغيرهم، وكان الجميع يرحّبون بها، وكان هو، وبين الترحيب حلّت الطمأنينة. شعرت هند بالراحة والعفوية، وانطلقت على سجيتها كما كانت تفعل في أيام ماضية.
كرّر الدكتور سامي اسم خالد، وتابع، فهو صديق قديم. يعمل في الصحافة. لا يعرف الاستقرار. يتنقّل من بلد لآخر. يحمل همومه المتجدّدة باستمرار.
ضحك خالد مؤكّداً صحّة ما سمع. كانت هند مندهشة، فما سمعت هو آخر ما فكّرت أو تفكّر به. كان قلبها يخفق. إنها المرة الأولى التي تعقد فيها موعداً هاماً، كما حصل معها. لم تعد تفكّر لماذا هي هنا؟ شعرت بأنها مكتفية بتلك الدقائق القليلة وهي بصحبة خالد، الذي انتقاها لسبب ما. دخل الجميع في حوارات كثيرة. كانت منشغلة عنهم. استمعت إلى بعضها. تحدّثوا عن الواقع العربي. أبدى خالد استياءه من أبناء بلده، الذين يسخّرون طاقاتهم لغير الوطن، فقد لاحظ من خلال تجواله الطويل. أن أهم الأعمال في أمريكا، تقع على عاتق الشباب العربي، ولو سخّر طاقته للوطن، أو لو لم يتجاهل قضيته الأولى، لاختلفت أمور كثيرة.
هيئ لهند فجأة. أنها ستستيقظ ذات يوم في الوطن. تراءى للحال وجه أبيها يبتسم، ووجه أمها ينضح بشراً، وخلال ومضة سحبها خالد من شرودها، معلّقاً ببساطة.